أهلًا بكم في الحلقة الثامنة من سلسلة (مع الطيور) والتي يقدمها لكم مراقب الطيور ومصور الحياة البرية إسماعيل خليفة

في هذه الحلقة سنتحدث عن الطيور في الشعر العربي مع التركيز على الشعر العربي الكلاسيكي القديم نسبياً بدءًا من العصر الجاهلي وشعراء المعلقات.
مما لا شك فيه أن الطيور البرية كانت وما زالت من أهم مصادر الإلهام بالنسبة للشعراء وأرباب الفنون, فالطيور حاضرة بقوة في كل مجالات الفنون تقريباً ويتم استخدام الطيور المختلفة كرمز
فنجد مجنون ليلي (قيس بن الملوح) يخاطب سرب من طيور القطا قائلا:
شكوتُ إلى سرب القطا إذ مررن بي فقلتُ ومثلي بالبكاءِ جديرُ
أسربَ القطا هل من مُعيرٍ جناحَه لعلي إلى من قد هويتُ أطيرُ
وطيور القطا (Sandgrouse) هى طيور صحراوية لها صوت مميز وتطير في مجموعات صغيرة بحثًا عن الماء وفي هذين البيتين الشعريين يطلب قيس من طيور القطا أن تعيره أجنحتها حتى يطير بها إلى من يهواها قلبه وهو هنا يقصد بكل تأكيد محبوبته ليلي.
ولم يقتصر حضور الطيور في الشعر العربي على شعر الغزل بل نجد علقمة الفحل على سبيل المثال يقول:
وقد اغتدِي والطير في وكناتها……وماء الندى يجري على كل مَذنَبِ
أي أنه يخرج لطلب الرزق حتى قبل أن تستيقظ الطيور في أعشاشها وقبل أن يتبخر ماء الندى من الحقول
وكقول الخنساء في رثاء أخيها صخر:
وهما كأنهما وقد برزا….صقرانِ قد حطا على وكرِ
وهنا تشبه الخنساء أخويها صخر ومعاوية بالصقور التي تنقض بقوة وسرعة على أوكار الغربان.
الخنساء تقول في بيتٍ آخر:
أبكي لصخرٍ إذا ناحت مطوّقةٌ…حمامةٌ شجوها ورقاء بالوادي
أي أن صوت الحمامة المطوقة (Collared dove) يذكرها بالبكاء على فقدان أخيها صخر, كلما سمعته
وقد وصف الشاعر العربي سلوك بعض الطيور في بيئته وصفاً دقيقاً كقول طرفة بن العبد:
يا لكِ من قُبرةٍ بمَعمَرِ….خلالكِ الجو فبيضي واصفِري
قد رُفعَ الفخ فماذا تحذري…ونقِّري ما شئتِ أن تنقّري
قد ذَهَبَ الصياد عنكِ فابشري…لابد يومًا أن تُصادي فاصبري
وهو هنا يتحدث عن طائر القُبرة (Lark) المعروف بالحذر والتغريد في الحقول
وبخلاف القطا والحمام احتفي الشاعر العربي بطيور أخرى وأنزلها منزلة عظيمة مثل الصقور والعقبان:
يقول طرفة بن العبد:
فأما يومهن فيومُ نحسٍ…تطاردهن بالحَدَبِ الصقورُ
وهو هنا يصف قوة الصقور في مطاردة طيور الكروان
ويقول جرير مادحًا قومه:
همُ الأخيارُ منسِكةً وهديًا…وفي الهيجا كأنهمُ الصقور
أي أنهم أصحاب أخلاق وحلم وفي أوقات الحرب هم شجعان أقوياء كالصقور
وعلى نفس الشاكلة يقول البحتري:
بفوارسٍ مثلِ الصقورِ وضُمَّرٍ….مجدولةٍ ككواسرِ العقبانِ
واصفًا الفرسان في المعركة بالصقور المنقضة والعقبان الكاسرة
ولم يكتف الشاعر العربي بالإشارة إلى الطيور الجارحة المفترسة بل أشار أيضاً إلى طرائدها, كقول زهير بن أبي سُلمى:
يَكُنّ كالحُبارى إن أصيبت فمِثلُها…أصيبَ وإن تُفلِت من الصقرِ تَسلَحِ
كما أن الشاعر العربي كان يضرب الأمثال بالطيور. يقول العباس بن مرداس:
ضعافُ الطير أطولها جسوماً…ولم تَطُلِ البُزاةُ ولا الصقورُ
أي أن العبرة ليست في طول الانسان أو عرضه بل في رباطة جأشه وقوة قلبه, فالصقور والبرزاة طيور صغيرة الحجم لكنها الأقوى في عالم الطيور.
كما عمد الشاعر العربي إلى مناجاة الطير لعلها تسري عنه وتنصت لشكواه وتشعر بما يخالج نفسه ومن أمثلة ذلك مناجاة الشاعر أبي فراس الحمداني لحمامة وقفت بجانب سجنه الذي ألقاه فيه الروم:
أقولُ وقد ناحت بقربي حمامةٌ…….أيا جارةً هل تشعرين بحالي؟
معاذ الهوى ما ذقتِ طارقة النوى…ولا خطرت منك الهمومُ ببالِ
أتحملُ مخزون الفؤادِ قوادمٌ…….على غصنٍ نائي المسافة عالِ
أيا جارةً ما أنصف الدهر بيننا……تعالي اقاسمك الهموم تعالي
تعالي تري روحاًا لديّ ضعيفةً………تردد في جسمٍ يُعذّبُ بالِ
أيضحكُ مأسورٌ وتبكي طليقةٌ…..ويسكتُ محزونٌ ويندب سالِ
لقد كنتُ أولى منكِ بالدمعِ مقلة…ولكن دمعي في الحوادث غالي
ومن أمثلة مناداة الطير في الشعر العربي ما قاله الصنوبري في رثاء ابنته ليلى حيث يقول:
ألا ايها القمري كم ذا……..تغرد في الرواح وفي البكور
اجدك تشتكي جزعاً تبكي……..لمفقودٍ كبيرٍ أو صغيرِ
فقع في بابِ قنسرين فانظر…إلى جزع النساءِ على القبورِ
نساءٌ في حدادٍ صائحاتٍ…….كغربانٍ تصايحُ في الوكورِ
ينادين الأحبة في صخورٍ….وكيف يجيب من تحت الصخورِ
ينُحنَ وما ينحن شبيهَ ليلى….وينحرن الدموع على النحورِ
سأبكي ما بكى القمري بنتي….ببحرٍ من دموعي بل بحورِ
ألستُ أحق أن أبكي عليها….إذا بكت الطيورُ على الطيورِ
كما ربط الشعراء العرب طيورٍا بعينها بالتشاؤم أو الحزن والفراق كقول عنترة:
ظعن الذين فراقهم أتوقعُ…..وجرى ببينهم الغرابُ الأبقعُ
فزجرته ألا يفرخ عشه……..أبداً ويصبح واحدًا يتفجعُّ
إن الذين نعيت لي بفراقهم..هم أسهروا ليلي التمام فأوجعوا
وذلك في إشارة إلى تشاؤم العرب بطائر الغراب (Hooded crow)
ولعل كل هذه النماذج ليست سوى أمثلة قليلة على حضور الطيور بقوة في موضوعات ورمزيات الشعر العربي القديم ولعلنا نخصص حلقة أخرى من السلسلة لإستعراض المزيد والمزيد من لمحات إلهام الطيور في الأدب العربي