الطيور في سينما عاطف الطيب

يُعدّ عاطف الطيب (1947–1995) من أبرز رواد الواقعية الجديدة في السينما المصرية، حيث قدّم خلال مسيرته القصيرة الممتدة من الثمانينيات حتى منتصف التسعينات 21 فيلمًا برؤية إنسانية قادرة على تجسيد هموم المواطن البسيط وصراعاته اليومية. كان الطيب يفضّل التصوير في الشارع والمزارع بعيدًا عن الاستوديوهات المغلقة، فيضفي على أعماله شيئًا من دفق الحياة الحقيقية: أصوات السيارات والأغاني الشعبية والناس، وحتى نعيق الغربان وحفيف الطيور، يجعل السينما تعكس واقع المجتمع المصري بمعاناته وحيويته

الطيور في سينما عاطف الطيب
حضور الطيور ورموزها في أفلامه

ولأن الطيب كان محبًا للواقعية ولأن عدسته كانت ترصد البيئة المصرية بصدق وتلقائية فلم يكن غريبًا أن تسمع أصوات الطيور في أفلام عاطف الطيب، تجدها مثلا في رمزية نعيق الغربان عند القرافة في افتتاحية فيلم (قلب الليل) وتراها في رمزية الرفاهية والطرب عندما تسمع صوت البلبل يغرد في حديقة سرايا الراوي الكبير الذي كان يستضيف المطربين والمنشدين في صالونه الخاص لكن أبرز رمزيات الطيور في أفلام عاطف الطيب كانت في “الهروب” و “جبر الخواطر” فضلًا عن أن أحد أفلامه يحمل اسم طائر.

فيلم الهروب
الهروب ١٩٩١: الصقر رمز الحرية والتمرد

في هذه التحفة السينمائية، يظهر صقر يحلّق في المشاهد المتفرقة، ليس كعنصر ديكور فقط، بل كرمز قوي للحرية والغضب عند البطل “منتصر” (أحمد زكي) المقيد بطوق الفساد  الذي يحاصر حياته 

الصقر لم يكن مجرد رمز قابل للتأويل في الفيلم بل دعمه الحوار الذي دار بين سالم (عبد العزيز مخيون)، صديق الطفولة بالأمس وممثل السلطة اليوم (ضابط الشرطة)
انت فاكر كل حاجه زين يا ولد الناظر
ولا شجرة الجميز العجوز اللى كنت ترقد فوقيها تراقب الصقور زى ما تكون هتجيلك لحد عندك ؟
الشجرة دى يا سالم دايما تجيلى فى الحلم هى والصقر
اشمعنا الصقر ؟
ملك السما يا راجل ينام فوق الهوا تلاقيه فارد جناحاته الطويلة ونايم ومينزلش تحت إلا عشان يهجم على فريسته أو يوم ما يموت
طول عمرى كان نفسى أقلدك فى شقاوتك وأعمل كيف ما بتعمل، لكن مكنتش أقدر، أبوى كان مانعنى حتى ألعب معاكم
نهاية الطريق الواضحة، انت ظابط وأنا مجرم

يرمز الصقر في “الهروب” إلى التمرد والرغبة في تجاوز قيود السلطة والقمع وهو إختيار موفق لطائر معروف عنه عزة النفس وصيد الفرائس الحية، فضلا عن سرعته وقوة فتكه

جبر الخواطر (1998): نورس الأمل والخلاص

كما كان الصقر معبرًا عن روح التمرد والحرية في نفس منتصر في “الهروب” كان طائر النورس مفتاح الخلاص لنزيلة مستشفى الأمراض العقلية
أمال المريضة النفسية التي ظلمها الجميع وتخلوا عنها وتعرضت للخيانة من أقرب أقاربها تدخل سجن الأمراض العقلية وهى بريئة من تهمة لم ترتكبها لكن الجميع اتهموها أنها ارتكبتها. يرسل إليها القدر الطبيب الشاب محمود شاكر (أشرف عبد الباقي) ليأخذ بيديها للتعافي من وهم المرض وليخلصها من مافيا الأطباء الفاسدين الذين أرادوا ان يجعلوا منها فأر تجارب لأبحاثهم المشبوهة
تنحل عقدة آمال عند شاطئ بحر الإسكندرية عندما تسمع صوت طيور النورس وترى كيف يحلق هذا الطائر بحرية وسعادة.
وتبدأ علامات الشفاء تظهر على أمال عندما يحكي لها دكتور شاكر حكاية النورس الذي أراد أن يسابق كل النوارس ويطير أبعد من السحاب ليرى ماذا هناك في تلك السماوات الواسعة
ثم يكتمل نجاح العلاج عندما يقرر دكتور شاكر مفاجأة مريضته بأنها بريئة من كل اتهام من اتهامات الماضي وأن ابنها الذي طالما أحبته وحزنت ندمًا على فراقه ما زال على قيد الحياة لتشهد قصة أمال نهاية سعيدة استلهمت فيها روح الكفاح والمثابرة من طائر النورس الحر الطليق الذي قرر تغيير الواقع والتحليق إلى ما هو أبعد من السحاب
فيلم “جبر الخواطر” عام ١٩٩٨ هو آخر أفلام الراحل عاطف الطيب وتم عرضه بعد وفاته

فيلم الدنيا على جناح يمامة
الدنيا على جناح يمامة (1988): طائر السلام والحب

هذه المرة لم تظهر الطيور في كادرات عاطف الطيب بل ظهرت في إبرازه لرغبة البطلة (ميرفت أمين) في التحرر من قسوة تجربتها وتسلط من حولها وطمعهم في ثروتها والبحث عن حب حياتها ليعيشا معًا في حبٍ وسلام.
هذا الفيلم الدرامي-الكوميدي هو الوحيد من أفلام عاطف الطيب الذي حمل اسم طائر. طوال الفيلم لا توجد أي إشارة لتلك اليمامة التي جُعلت الدنيا على جناحها سوى في مشهد ختامي للبطلة بعدما وجدت حبيبها وتحررت من جراح الماضي (١٦ عاما من الغربة والعذاب) وأطماع الحاضر (تربص أقاربها الفاسدين الطامعين في ثروتها) واستعدت لبدء حياة جديدة تعيشها هذه المرة حرةً كاليمامة
“أنا عايزة أطير زي اليمامة”
هكذا أعلنت البطلة رغبتها في الحب والسلام وهي بين يدي حب عمرها وعوض معاناتها

عاطف الطيب
عاطف الطيب: الإنسان أولًا

لقد استطاع الطيب، من خلال وجود الطيور ورمزيتها في فضاء أفلامه، أن يعزز رسالته الإنسانية الواقعية ويقدم لمشاهديه نظرةً أعمق إلى دواخل شخصياته التي عادةً ما تكون أسيرةً لصراعات داخلية وخارجية تذهب أبعد من الإطار الدرامي.
لم يجد الطيب أفضل من الطيور لتعبر عن أحلام شخصياته ودوافعهم ونزعاتهم الداخلية وقد نجح في ذلك بشكل كبير كونه واحدًا من المخرجين القلائل في السينما المصرية الذين أبرزوا الجوانب الإنسانية لشخصياتهم من خلال ربطها بصفات طيور برية
وأخيرًا وكوني عاشق للطيور ومصور حياة برية من جنوب الصعيد حيث ينتمي عاطف الطيب، لا يسعني إلا أن أدعو لروح الطيب بالسلام وأن يتغمده الله بواسع رحمته وأن يعوض على السينما المصرية بنماذج إخراجية فريدة تقتفى أثر هذا المخرج العبقري

المقال هو حلقة من سلسلة “مع الطيور” التي يقدمها مراقب الطيور ومصور الحياة البرية إسماعيل خليفة وتقدم معلومات عن الطيور وأهميتها وعلاقتها بالإنسان

2 thoughts on “الطيور في سينما عاطف الطيب”

Leave a Comment

Your email address will not be published. Required fields are marked *

Scroll to Top