عودة القطقاط: الطيور البرية والقوى الناعمة المصرية

لم تعد الطيور البرية مجرد كائنات تحلق في السماء أو تزين ضفاف الأنهار والبحيرات؛ بل أصبحت اليوم إحدى ركائز ما يُعرف بالقوة الناعمة، تلك القوة التي تعكس وجه الدولة الحضاري وتؤثر في العالم من خلال الثقافة والطبيعة والرموز الحية. وفي مصر، يبدو أن ملف الطيور البرية يفتح أبوابًا واسعة لاستثمار بيئي وسياحي وحضاري غير مسبوق.

قبل عدة أسابيع سألني مراقب طيور بريطاني ما هو الطائر الذي تحلم برؤيته؟ فكرتُ قليلًا وبما أننا كنا على ضفاف بحيرة ناصر فقد تبادر إلى ذهني طائر القطقاط المصري والذي ارتبط اسمه طويلا بالتمساح حتى لقبه الناس قديما ب “طائر التمساح” لأنه كان يُشَاهَد وهو ينظف فك التمساح من بقايا اللحوم والأسماك التي يتناولها ويعمل كطبيب أسنان محترف يحمي أسنان التمساح من التسوس والانهيار
اختياري للقطقاط لم يأتِ من فراغ فهذا الطائر هو واحد من ٤ طيور برية تحمل اسم مصر وهو طائر كان موجودًا في البيئة المصرية لقرون قبل أن يتعرض للانقراض محليًا ولم يعد ضمن قائمة الطيور المصرية وبدأت أعداده تنتشر جنوبًا في بعض الدول الإفريقية. والأهم أنه مرتبط بكائن آخر تعرضت أعداده هو الآخر للتراجع بشكل مخيف خلال السنوات الأخيرة وهو التمساح النيلي

سؤال الضيف البريطاني حرك في داخلي الكثير من المشاعر والأفكار: لماذا لا يعود القطقاط كما يعود الابن الضال؟ لماذا نفرط في طائر يحمل اسم الوطن؟ أليس من العيب أن ألا يكون القطقاط المصري ضمن قائمة الطيور المصرية؟
كل هذه التساؤلات وأكثر دار في ذهني وأنا أتخيل تأثير هذا الغائب الشريد على صورة القوى الناعمة المصرية “مصر تعيد طيورها الشاردة” وكيف يمكن لعودة هذا الطائر لبيئته المصرية أن تروج السياحة البيئية في مصر عمومًا وبحيرة ناصر خصوصًا

Birds named after Egypt
إعادة توطين الطيور المصرية

ربما تكون كلماتي مجرد أحلام عصية على التنفيذ وربما لا أحمل من المؤهلات العلمية أو الأكاديمية ما يجعلني على يقين من نجاح خطط إعادة التوطين وأنا هنا أحيل هذه الأحلام إلى المختصين لدراسة إمكانيات التنفيذ، لا سيما وأن دولا في منطقتنا العربية قد بدأت بالفعل مشاريعاً مماثلة لإعادة توطين طيور الحبارى وغيرها.
ما أثق فيه هو أن إعادة توطين أنواع من الطيور التي انقرضت من البيئة المصرية، ومنها النعام البري أو القطقاط المصري الذي كان رمزًا لبحيرة النوبة، والذي كان اختفاؤه علامة على تراجع النظم البيئية، سوف لن تكون مجرد عودة بيولوجية لطائر شارد، بل عودة لجزء من هوية المكان، ودعوة مفتوحة لعشاق الطبيعة والطيور من كل أنحاء العالم لزيارة مصر والاستمتاع بمشاهدة طائر نادر يحمل اسمها.
إن عودة القطقاط قد تجعل من بحيرة ناصر نموذجًا لمناطق تجمع الطيور النادرة، الأمر الذي يفتح أبواب رزق جديدة للمجتمعات المحلية عبر الإرشاد البيئي وخدمات الضيافة.

إعادة دراسة الطائر القومي لمصر

الطائر الوطني للدولة هو أيضًا وسيلة جيدة لتعزيز القوى الناعمة البيئية -إن صح التعبير- فعلى الرغم من ثراء مصر الكبير في عالم الطيور، لم يُحسم بعد اختيار طائر قومي يعبر عن هوية مصر البيئية والتاريخية أو على  الأقل هناك بعض التضارب في تسميات الطائر الوطني لمصر لاحظته عند بحث سابق. ومن هنا تبرز أهمية تشكيل لجنة علمية متخصصة تعيد دراسة أنواع الطيور المميزة لمصر عبر التاريخ، ثم اختيار طائر قومي جديد أو تعزيز مكانة الطائر المختار مسبقًا (بعد الاتفاق على التسمية الصحيحة)، وإطلاق حملة وطنية ودولية للتعريف به.

هذه الحملة يمكن أن تربط بين الطائر المختار وبين الحضارة المصرية القديمة التي زخرت بالرموز الطيرية في النقوش والمعابد، وبين الهوية الحديثة لمصر التي تسعى لتكون مركزًا للسياحة البيئية وحماية الحياة البرية.

الطيور البرية
الصيد الجائر عقبة كبيرة على الطريق

إذا كنا هنا نتحدث عن قوة مصر الناعمة وآليات تعزيزها فإن الصيد الجائر وغير القانوني للطيور المهاجرة (على طول الساحل الشمالي المصري مثلا) يعمل في إتجاه معاكس، يؤثر بشكل سلبي للغاية على سمعة مصر الدولية ويكفي هنا الإشارة إلى بعض التقرير الصحفية الدولية التي وصفت مصر بأنها “مقبرة الطيور المهاجرة” وهو ما تسبب أيضًا في انزعاج المنظمات الدولية المعنية بالطيور والتي تحدثت عن توقيع مصر اتفاقيات دولية تلزمها بحماية الطيور العابرة لأراضيها.
لذلك لا يمكن الحديث عن الإستفادة من الطيور البرية كورقة للقوى الناعمة المصرية دون الإشارة إلى ضرورى تضافر الجهود الرسمية والمجتمعية للحد من الصيد الجائر وغير القانوني من خلال خطوات ملموسة تتعلق بتحديث التشريعات، وتنظيم الحملات التوعوية، وتشديد الرقابة. نجاح مصر في ملف الحد من الصيد الجائر يُعَد بحد ذاته رسالة إيجابية للعالم بأن مصر دولة متحضرة ومسؤولة بيئيًا، تسعى للحفاظ على ثرواتها الطبيعية

محطات للتحجيل والترقيم… علم يفتح الآفاق مع العالم

قد يكون من أبرز المؤشرات على جدية مصر في ملف الطيور البرية كوسيلة لتعزيز القوى الناعمة هو دراسة الحكومة المصرية إنشاء محطات متخصصة للتحجيل والترقيم لبعض أنواع الطيور. هذه المحطات تقوم بدراسة سلوكيات الهجرة والتوزيع الجغرافي للطيور، وتساهم في بناء قاعدة بيانات علمية دقيقة تدعم القرارات البيئية. كما تمثل هذه الدراسات جسورًا للتعاون الدولي مع المؤسسات البحثية حول العالم. ويكفي هنا أن نذكر أن بعض البعثات العلمية الأوروبية تقوم بعمليات التحجيل للطيور على الأراضي المصرية لحسابها الخاص دون تنسيق علمي أو أكاديمي مع الجانب المصري الذي لا يمتلك البنية التحتية العلمية اللازمة في هذا الصدد. وأنا هنا اقترح أن يكون أحد هذه المراكز بمحافظة أسوان كون محمياتها الطبيعية قد عايشت بعثات أوروبية اتخذت من بعض المناطق مراكز للتحجيل (محمية سالوجا وغزال على سبيل المثال).

Ferruginous duck with chicks
الطيور المهددة تتعافى… قصة أمل من أسوان

وعلى ذكر أسوان، تلك المدينة التي عُرفت تاريخيًا بنيلها الفياض وجزرها الجرانيتية الفريدة وطبيعتها الساحرة، بدأت تكتب فصلًا جديدًا في قصة الطيور البرية. فقد تم رصد تكاثر البط الحديدي، وهو نوع قريب من خطر الانقراض، داخل محميات ومسطحات مائية في أسوان. تخيل أن طائر مهاجر مهدد بالانقراض يأتي إلى تلك البقعة الجنوبية من ارض مصر فيتحول إلى طائر متكاثر مقيم تتزايد اعداده بدلا من أن تتراجع. هذا الحدث العلمي يحمل رسالة أمل بأن مصر قادرة على استعادة توازنها البيئي إذا ما استمرت الجهود وتكاملت المبادرات.

الطيور كأداة للقوة الناعمة المصرية

كل هذه المبادرات لا تقف عند حدود حماية الطبيعة، بل تمثل أداة للقوة الناعمة المصرية. فحين يرى العالم مصر بلدًا يرحب بالطيور ويحميها، بلدًا يعيد توطين طيور نادرة ويحافظ على المهاجرة منها، فإنه يراها بلدًا متحضّرًا، يوازن بين التنمية والحفاظ على البيئة، بلدًا يملك من الجمال الطبيعي ما يجذب السائحين والباحثين والمصورين وذلك في إطار دعم الاقتصاد الأخضر والسياحة البيئية. فهل تجد رسالتي هذه آذانًا صاغية وهل استيقظ يومًا على تلك الأحلام الصغيرة وقد تحولت إلى حقيقة؟

المقال هو حلقة من سلسلة “مع الطيور” وهي سلسلة توعوية من إعداد مراقب الطيور ومصور الحياة البرية إسماعيل خليفة وتهدف إلى زيادة الوعي بالطيور البرية وأهميتها في حفظ التوازن البيئي وفوائدها المتعددة للإنسان

مقالات ذات صلة

Leave a Comment

Your email address will not be published. Required fields are marked *

Scroll to Top